عاملات الحي الصناعي.. نساء يكابدن الاستغلال في معامل البيضاء
جئن من القرية إلى المدينة بحثا عن حياة أفضل
إلهام الطالبيهن لسن لاجئات سوريات اضطرتهن الحرب إلى مغادرة بلدهن، أو مهاجرات من جنوب الصحراء، طردهن الفقر وقادهن الحلم الأوروبي إلى المغرب، بل هن مغربيات أبا عن جد، شابات ينحدرن من دواوير الحوز، فقيه بن صالح، ميدلت، سيدي سليمان، ولاد برحيل، دوار شويات نواحي صويرة، دكالة وعبدة…، يأتين من رقع جغرافية موجودة على الخريطة لكنها تعاني من العزلة على جميع المستويات، فعندما يجتمع الفقر بالتهميش والإقصاء، فطبعا ستكون النتيجة مشهدا مأساويا، ضحاياه شابات في مقتبل العمر، جئن من مختلف الدواوير، لجأن إلى خيار الهجرة من الدوار إلى المدينة، ليواجهن واقعا شديد القسوة لأسباب الغالب فيها البحث عن لقمة العيش.
الفقر والهجرة
التقت «المساء» بشابات كثيرات، غادرن القرية كرها وامتطينا الحافلات صوب محطة اولاد زيان في الدار البيضاء، من بينهن من خضعت للواقع وظلت وفية لدوارها حتى لو قسى عليها، ومن هن من تمردت على واقعها واختارت أن ترتمي بين أحضان عالم يروي فقرها ويوفر لها المال، ولكن أي عالم هذا في مدينة الأضواء التي لن تحتضن إداراتها فتاة ليست لديها شهادة أو حرفة أو حتى عائلة تحضنها، أي عالم هذا سيمد لها يد العون بدون أن يطلب منها المقابل.
بهذه العبارات تتساءل زبيدة «اسم مستعار» التي التقتها «المساء»، شابة في العشرينات من العمر، كان وجهها شاحبا، تجلس على أريكتها البالية في غرفتها المظلمة، إلى جانبها قنينة غاز صغيرة الحجم وهي تشاهد مسلسلها التركي المفضل «سامحيني»، كانت تحكي لنا عن قصة المسلسل بكل عفوية، وتتابعه بتركيز وتصدق قصة الفيلم على الرغم من أنه يحكي عن ثقافة تختلف عن ثقافتها، بعدما انتهت من مسلسلها، فتحت لنا باب الحكي عن مسلسل آخر بطلته زبيدة.
بابتسامة عفوية اختارت أن تسمح لنا بالغوص في تجربتها، قائلة «ترعرعت في دوار يقع نواحي مدينة مراكش، في قرية فقيرة تفتقر للمصانع وحتى الفلاحة لم تسلم من ويلات سنوات الجفاف المستمرة»، «لا يوجد أي بديل أمامنا إلا السفر إلى الدار البيضاء»، فالفقر المدقع تضيف زبيدة « بنت القرية» كان دافعا رئيسيا لهجرتها نحو المدينة، تابعت حديثها ولكن هذه المرة دون ابتسامة قائلة: «تخيلي أبي أعطاني 30 درهما فقط، وقالي لي سيري خدمي على راسك»، 30 درهما هي فقط ثمن الحافلة لكي تسافر زبيدة إلى الدار البيضاء وتجابه عالمها المجهول، وتشتغل لتعيل إخوتها الصغار.
مغادرة زبيدة للدوار كانت صعبة، لاسيما أنها غير متعلمة ولا تملك أي دبلوم يخول لها الاندماج في سوق الشغل، تحكي لنا قصتها والدموع تنهمر من عينيها، تحاول في كل لحظة منع نفسها من البكاء، لكن سيول دموعها أبت أن تتوقف، لتستمر في الحديث، وفي كل كلمة تلفظها تخرج معها دمعة، فكيف لشابة قروية لا تفقه في الحياة شيئا أن تسافر إلى مدينة كبيرة كالدار البيضاء برصيد يبلغ 30 درهما، تقول «30 درهم ماذا أفعل بها، هل آكل أو أسكن بها، بالإضافة إلى أنني لا أملك دبلوما، جئت مكرهة والله يسامح من كان السبب».
محطة ولاد زياد
في حالة مشابهة لحالة زبيدة، قصدنا أحد صالونات الحلاقة المتواجد في حي البرنوصي في الدار البيضاء، هذا الصالون معروف باستقباله بنات «الحي الصناعي» بالنظر إلى ثمنه المنخفض في تزيينهن، ونظرا لأن صاحبة الصالون تتعامل معهن بشكل جيد وتقرض بعضهن بعض المال في حال تعذر عليهن الأداء.
في إحدى الجلسات، التقيت بـ»حكيمة»، فتاة جميلة الملامح، رشيقة الجسد، اعتادت أن تأتي إلى الصالون للتزيين، خاصة أيام «الويكاند» حيث تستعد للقاء خطيبها كما تقول، حاولت استدراجها للحديث لأن الفتاة للوهلة الأولى لا تظهر على أنها بنت «الدوار» بل بالعكس، فهي مهتمة بمظهرها وبمكياجها، لكن دقائق فقط من صمتها، حتى سمعت صوتها، الذي يتناقض تماما وشكلها الخارجي، بدأت بالحديث بمفردات «بدوية» ممزوجة بمفردات من المسلسلات المدبلجة بالدارجة، آنذاك تأكد لي أنها من أبحث عنه.
لم تتخيل حكيمة أنها ستترك يوما الدوار الذي ولدت فيه وهي في عمر 16 سنة وستنتقل إلى أكبر أحياء الدار البيضاء كثافة سكانية، البرنوصي، لكن الظروف قادتها إليه مرغمة.
في غضون حديثنا معها كانت تحاول أن تستحضر لحظة مغادرة الدوار التي مضت عليها سبع سنوات، تعود حكيمة إلى بداية الرحلة حينما كانت تحمل بين يديها حقيبتها بدون أن يصطحبها أحد في رحلتها، كانت تصور لنا المشهد الذي عاشته قائلة: « كنت أحمل حقيبتي وأقف في المحطة، كان الأمر صعبا، لقد أحسست بأني ضائعة بين المسافرين، وبمجرد ما سمعت الدار البيضاء توجهت إلى الحافلة، دفعت ثمن تذكرة ثم ركبت.
وفي كل لحظة كان يبتعد «الكار» عن بلدتي، كان ينتابني حينها إحساس بالخوف والرهبة، أحسست بأن الجميع يعرف من أين قدمت، كنت أحتضن حقيبتي وأبكي بقوة، أسأل نفسي أين سأذهب عندما تصل الحافلة إلى البيضاء».. كانت تتحدث بنبرة صوت يمتزج فيها الضحك بالحزن والأسى ليعزف على جراحها، كاشفا عن رحلة المهاجرات القرويات إلى المدينة.
الوصول إلى مدينة الدار البيضاء وبالضبط محطة أولاد زيان، يعد محطة مهمة في رحلة مهاجرات القرية، خاصة أن بعض من يشتغلون في المحطة ينتظرون بفارغ الصبر حالات تشبه حكيمة، فبمجرد أن تطأ قدماها المحطة تبدأ حلقة أخرى من مسلسل معاناة المهاجرات، تصف لنا حكيمة هذه اللحظات وهي ترفع من نبرة صوتها «الغليظ» لتطأطئ رأسها نحو الأرض «لا صوت هناك كان يعلو على أصوات «كريسونات»، كانوا يلاحقونني، بمجرد ما لمحوني، لأن حركاتي ونظراتي توحي بأني مهاجرة من القرية أو كما يطلقونا علينا «عروبية» أو «هاربة»، حاصروني من كل مكان بالإهانات، لكن تدخلت إحدى النسوة وأنقذتني منهم، لم أكن أجيد آنذاك الدفاع عن نفسي، الشيء الوحيد الذي كنت أقوم به هو البكاء».
لحسن حظ حكيمة أنها التقت بتلك المرأة التي ساعدتها وأخذتها معها إلى حي البرنوصي، حيث يسكن معظم مهاجرات القرية العاملات في الحي الصناعي «عين السبع»، تقول في هذا الصدد « لولا لالة خديجة التي ساعدتني وأخذتني من المحطة، لكان مصيري هو الشارع في مدينة «الأضواء والضوضاء».
«سداري» للكراء
كان أول تحد يواجه حكيمة هو إيجاد عمل لتتمكن من دفع ثمن كراء «السداري» الذي تنام عليه في غرفة تتقاسمها مع خمس فتيات أخريات، فثمن «السداري» يبلغ 300 درهم شهريا، وكان من الضروري إيجاد عمل في أقرب وقت ممكن.
تقول: «لن أنسى كيف كنت أبحث عن عمل من شركة إلى أخرى، لقد كنت أجلس ساعات طويلة أمام أبواب المعامل والشركات، كنت أمر أمام «السناكات» والمقاهي ولعابي يسيل من الجوع، كنت أرى مشاهد أناس يلتهمون الوجبات وأنا لا أملك حتى ثمن رغيف خبز، استمر وضعها على هذه الحال إلى أن وجدت عملا كنادلة في مقهى، لم تستطع حكيمة أن تنسى هذا المشهد الموشوم في ذاكرتها، لاسيما أنها كانت في الـ 16 من عمرها وكان من الممكن أن تسلك طريقا آخر، طريق الداخل إليه مفقود والخارج منه تلاحقه الشبهات والتهم أينما حل أو ارتحل.
كشفت لنا حكيمة عن جانب مظلم من حياة المهاجرات وهو البحث عن عمل في ظروف صعبة وأيضا كراء سرير في غرفة تضم 4 أسرة، تقول «كان من صعب علي الاندماج في البداية لكن الفقر وقلة الحيلة تدفعك للصبر، ومواجهة الحياة».
في غرفة ضيقة منقسمة إلى أربعة عوالم، اقتادتنا حكيمة لنتعرف على عالمها الصغير، وسط ملابس الفتيات المبعثرة على الأرض، ومرآة مكسورة توجد على أحد الأسرة، وجدران تتخللها شقوق، غرفة بدون نوافذ، كان كل سرير يحكي قصة فتاة قروية اضطرتها قساوة الأوضاع إلى حمل حقيبتها والقدوم إلى البيضاء، بحثا عن لقمة العيش التي قد تتحول أحيانا إلى لقمة الموت.
خلال تعرفنا على زميلة حكيمة، التي تنام بقربها، في «سداري» آخر اكترته، ابتسمت حنان وعيناها مغرورقتان بالدموع وهي تحكي «أتدركين أنه رغم المشاكل التي واجهتني، حين كنت أتصل بأبي، كان يخبرني متى سترسلين المال، أنظري إلى ابنة فلان دائما ترسل لعائلتها المال، أخبرته أن ابنة فلان الذي دائما يقارنني بها تبيع جسدها مقابل المال، الدار البيضاء ليست مدينة يوزع فيها الأموال، لقد كان رده مفاجئا أخبرني بأن علي أن أبعث له المال ولا يهمه كلامي».
وعلى الرغم من المشاكل التي واجهتها، استطاعت حنان أن تتحدى ظروفها، حيث اشتغلت في البداية في أحد المكاتب كعاملة نظافة، غير أنها تعرضت للتحرش من طرف أحد الزبائن، وتركت العمل لتطرق أبواب الحي الصناعي وبضبط شركات الخياطة، حيث اشتغلت في البداية كعاملة لإزالة الخيوط ثم مع الأقدمية أصبحت مراقبة.
بصوت خافت ونظراتها التي تحكي الكثير، وصفت حنان واقع المهاجرات القرويات قائلة «في بعض الأحياء بالدار البيضاء، بمجرد أن يلمحوا أسنانك ويجدونها صفراء يهينونك، نحن مغاربة مثلهم، العمل هو ما جاء بنا هنا».
تضيف «العيش في غرفة مع فتيات، لكل واحدة مبادئها وتربيتها، أمر صعب، لكن الفقر أصعب من كل شي، فعملي في شركات الخياطة التي للأسف لا تعاملنا كبشر، ويحاول بعضها استغلالنا بالعمل مدة طويلة وبأجر 2000 درهم وأحيانا يقتطعون منها، لأنهم يدركون بأننا «أميات».
مشاهد من الحي الصناعي
تشتغل حنان، عاملة في شركة الخياطة، ويشكل عملها المعيل الوحيد لأسرتها، تقول بصوت يملؤه البكاء «أرغب دائما في ترك العمل لكن عندما أفكر في عائلتي أتراجع لأني إذا تركته سألجأ إلى الدعارة، كما هو حال بعض المهاجرات اللائي أسرتهن أضواء البيضاء، ودفعتهن ظروف الفقر وقلة الحيلة لفعل ذلك، فبدلا من العمل لشهر كامل مقابل 1500 درهم أو 2000 درهم اخترن الطريق السهل».
ودعنا حنان وتركناها برفقة حكيمة تستعدان للخروج، ثم انتقلنا إلى الحي الصناعي بعين السبع لرصد واقع مهاجرات القرية اللواتي يعملن يوم السبت مساء رغم أنه يوم عطلة، لقد كانت عقارب الساعة حينها تشير إلى الساعة الواحدة زوالا، بمجرد وصولنا إلى الحي الصناعي كان أول مشهد التقطناه هو الكم الهائل من الفتيات العاملات اللائي كن يجلسن على الأرض بجوار المعامل، لتناول وجبة الغداء، يرتدين وزرات بيضاء، ملامحهن تختلف من واحدة إلى أخرى، وجوه شاحبة، فتيات بحجاب وأخريات بدونه، في كل زاوية تجلس مجموعة من الفتيات اخترن التحايل على الواقع والحديث عن معاناتهن بنكهة فكاهة، يعلو صوت قهقهاتهن، كان الضحك وسيلتهن للصمود أمام الواقع.
بين أسراب الفتيات الجالسات على الأرض، أثار انتباهنا مشهد «كلثوم»، شابة تبلغ 26من العمر، كانت تقف أمام باب الشركة، عندما سمعنا صوت صراخها بصوت مرتفع، وبكاءها بشدة، في نظراتها اجتمعت الحسرة والأسى، لتكشف عما يقبع داخلها، اقتربنا منها وسألناها عن سبب صراخها، فاختارت الصمت في البداية إلى أن شربت الماء وأخذت نفسا عميقا، لترد علينا بنبرة صوت مرتفعة» لقد اشتغلت لمدة سنة في هذه الشركة، وأيضا أشتغل الساعات الإضافية، بيد أنهم يقتطعون من حسابي، لقد كنت أسكت عن حقي فيما مضى، لكن هذا الشهر أبي سيجري عملية، وأحتاج إلى المال».
كانت الدموع تنهمر من عيني كلثوم، وهي تصرخ بصوت مرتفع غير آبهة بمن حولها، «من أين لي أن أدبر المال …حرام… والله»، كلثوم قطعت مسافات طويلة للقدوم إلى الدار البيضاء بغية العمل وإعالة أسرتها، تقول في هذا الصدد قدمت من دوار «شويات» نواحي الصويرة، لأجل العمل لكنني واجهت واقعا مزريا في هذه الشركات التي تمتص دماء الفتيات وتستغل حاجتهن للعمل.
كانت آثار الحزن والبكاء مرسومة على وجه كلثوم، وأيضا ملامحها توحي بأنها أكبر سنا بسبب الهموم التي تحملها، لاسيما أنها المعيل الوحيد لأسرة تتكون من 6 أفراد.
اجتمعت الفتيات حول كلثوم وكانت كل واحدة تحاول أن تخفف عنها، لكنها اختارت أن تقصد المسؤول عن رواتب العاملات للاستفسار، وبدورنا جلسنا نحن أيضا ننتظر خروج كلثوم من الشركة، مرت بضع دقائق لتخرج «كلثوم»، التفت حولها الفتيات، ليطرحن عليها نفس السؤال: ماذا قال لك.
بصوت تملؤه الحرقة وكلمات متقطعة تتوقف من شدة البكاء أجابت عن أسئلتهن قائلة» أخبرني بأن البغال موجودين للعمل بدلا مني، وإذا لم يعجبني الأجر فمن الأفضل أن أترك العمل وأعود من حيث جئت».
تقول صفاء التي كانت تواسي كلثوم «هذه معاناتنا في شركات الخياطة، علينا أن نصبر على الإهانة، حيث إن المسؤول في كل يوم يشتمك ويهينك، أما إذا كنت جميلة فعليك أن ترضخي لرغباته، وإلا سيطردك من العمل، لذا علينا الصبر «هذا هو مكتوبنا «.
سرقة الأرزاق وقطع الأعناق
مشهد كلثوم يجسد جزءا صغيرا من معاناة العاملات في شركات الخياطة، حيث يواجهن مشاكل أخرى كالسرقة، فوفقا لحكايات العاملات فإنهن يعانين من وجود عصابة تتربص بهن شهريا، وتفرض عليهن إتاوة مقابل سلامتهن، والتي لم تدفع تتعرض لتشويه ملامح وجهها، كان لكل واحدة من العاملات قصص مع السرقة، تقول مليكة « منذ وصولي إلى الدار البيضاء تعرضت للسرقة لعدة مرات، لازلت أتذكر آخر مرة، كنت أحمل مبلغا ماليا أرغب في إرساله لأهلي في الدوار، إذا بي أفاجأ بشاب في مكان عام سرق محفظتي، تحت تهديد السلاح الأبيض، لقد أعطيته ما بحوزتي من مال خوفا من أن يترك على وجهي عاهة مستديمة، فقد قال لي «عطيني رزقك ولا نقطع ليك عنقك»، وبعدها اضطررت لأخذ سلف من زميلاتي في العمل، لكني الآن أصبحت أدفع المال لمن يحميني من السرقة خوفا من تكرار نفس السيناريو مستقبلا.
عندما تتعرض العاملة للسرقة أو تقتطع الشركة من أجرها، فمن أين لها بالمال لدفع أجرة الكراء والغذاء وإرسال قسط مهم للأهل الذين ينتظرون المال بفارغ الصبر، نتوقف هنا لنطرح سؤالا مهما عن مصير فتيات هجرن قرى نائية تفتقد ظروف العيش الكريم واضطرتهن الظروف للرحيل إلى أكبر مدن المغرب، التي لا ترحم حتى من يعيش بجوار أهله فبالأحرى الغريب.
من مشاكل العاملات أيضا، صعوبة التنقل، حيث يتكبدن عناء قطع مسافات مشيا على الأقدام من الشركة إلى منازلهن، تقول خديجة إحدى العاملات اللائي التقيناهن في الحي الصناعي، «النقل كابوس العاملات لاسيما أنه يكلفنا جزءا مهما من راتبنا، الأمر الذي يدفعنا أحيانا للجوء إلى تريبورطور أو الكارويلة، لأنها وسائل نقل أقل تكلفة» لكن تشكل خطرا على حياة العاملات، فالعديد من الحوادث وقعت وسردت حكاياتها على لسان عاملات الحي الصناعي، وحالات كثيرة «لكرويلات محملة بالنساء « صدمها القطار، أو لتريبورتور انقلب تحت الطريق السيار مخلفا ضحايا في الأرواح من النساء، فمنهن من توفيت ودفنت وأهلها هم آخر من يعلم.
الحياة في الشارع
الخوض في تجارب مهاجرات القرية، جعلنا نقف عند نقطة مهمة في رحلتهن، هي مفترق الطرق، فإذا كانت زبيدة، قد رضخت للواقع المرير وكلثوم اختارت أن تبكي لأنها لا تملك المال لإجراء عملية لأبيها في القرية، أمام مشاهد الفتيات وهن يكترين أريكة بـ300 درهم، وسارق متربص عند نهاية الشهر، ينتظر أن يدفعن له الإتاوة لأجل توفير الحماية، فإن ابتسام شابة في الـ 27 من العمر التقيناها في إحدى مقاهي البرنوصي قرب مسجد طارق، كانت تجلس وحدها في الطابق الثاني من المقهى، قرب النافذة، شابة اقتادتها ظروف الحياة الصعبة عقب مغادرة بني ملال، للمجيء إلى الدار البيضاء. تقول ابتسام في هذا الصدد «بمجرد وصولي إلى الدار البيضاء، عشت لحظات الويل، لم أجد عملا، جميع الأبواب كانت موصدة أمامي، بعد أن بحث عن عمل ولم أجده واضطررت للمبيت في الشارع ليالي عدة في المحطة، لم يرحمني أي إنسان، لم يساندني أحد، الأمر الذي جعلني عرضة للكلاب الضالة تنهش لحمي.
تتذكر ابتسام اللحظات التي عاشتها في الشارع قائلة «عندما لا تجد ما تأكل ولا مكان تنام فيه، فإنك ستقبل بأي عرض يمنحك السكن والمأكل والملبس، لذلك قبلت بعرض إحدى النساء، التي منحتني مسكنا مقابل العمل في الدعارة».
عقب ما تخبطت فيه من معاناة في الشارع وعندما أغلقت أبواب العمل أمامها، قررت ابتسام امتهان الدعارة، وأن تقتات من جسدها، لاسيما أنها لا تملك شهادة أو حرفة، لأنها تركت دوارها خاوية الوفاض، تحمل معها حلما بأن تعمل وترسل المال إلى أهلها شهريا، بيد أن رياح المدينة تجري عكس ما اشتهت ورغبت فيه ابتسام.
مشهد ابتسام وهي تدخن سيجارتها وتحتسي فنجان قهوتها السوداء، وتضع نظارات سوداء، ورنات هاتفها المتواصلة منذ جلوسنا معها، كانت عندما تحدث زبناءها تغير نبرة صوتها وتضحك، وحين تعود للحديث عن واقعها، تتغير ملامح وجهها وتهرب بنظاراتها بعيدا عبر نافذة المقهى، لتختار توديعنا والرحيل للقاء زبون، يدفع لها ثمن العيش في المدينة.
استوقفنا سؤال: كم من ابتسام في الدار البيضاء، وكم من مهاجرة جاءت باحثة عن عمل فوجدت نفسها بين أحضان المجهول، والى متى ستستمر الشركات في استغلال الوافدات من القرية؟ والى متى ستظل كلثوم وزبيدة وصفاء صامدات في عالم المدينة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق