الثلاثاء، 13 ديسمبر 2016

احمد بركات...شاعر رحل وترك بصماته على دروب المنفى

في بداية الثمانينات التقينا في جمعية الطريق بالشاعر احمد بركات
سافر معنا في كل احلامنا البسيطة
للغناء
والمسرح والكلمة
كان رحيله المفاجئ نغمة ناشزة على كمان كسرت كل ترنيماته المفقودة
في اسفي ونحن نحمل نشارك في المسرح
كان كرسي الاعتراف
شباب يبحث عن الغد
رحل ورحل جعفاري عبد الاله
ورحلت حبيبة الزاهي
وبقت الصورة عالقة على الجدران
اليه في ذكراه
https://www.facebook.com/poetahmedbarakat/posts/1510427542373060
صفحة له على الفايس
 https://www.facebook.com/poetahmedbarakat/

http://www.goud.ma/%D9%85%D9%86-%D9%8A%D8%AA%D8%B0%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%A7-57994/

من يتذكر الشاعر أحمد بركات ؟ (في الذكرى مابعد العشرين لوفاته ) | جمال أكاديري

جمال  أكاديري 

هل يكفي فقط التعرف على أحمد بركات والتحدث معه لتجد نفسك بعدها أسير الهالة الشعرية مفتونا بها يقظا في مواجهة ما يتعذر الإفلات منه؟ هذا شيء أكيد لا مفر منه لأن الشاعر دائما منذورا للغواية والقلق المتواصل فهو لا يقدر أن يختار ميزة أخرى لنفسه بعيدا عن الثقب الأسود الذي يأسرنا في مجرة الروح. لا سبيل آخر له خارج المجهول: مركز الإعصار و الجاذبية القاتلة…

حدث مرة أن التقيت بهذا الكائن الأنطلوجي في حمّى ملتقى الشعراء الشباب، والذي كانت تشرف عليه جمعية تطوعية كل سنة وكان برفقتنا كاتب مغربي بنكهة أخرى، الشاعر كريم أوعبلا المقيم حاليا في المهجر صاحب ديوان متميز صدر مؤخرا بلبنان. وحدث أن كلّمني دفعة واحدة، وعلى إيقاع أعلى نوتة داخلية لديه، بما كان يكنّه من شغف لغنى الشعر الأمريكي (بإختلاف تضاريسه وكثافاته و ترحلاته) و عما كان ينتقيه في قراءته الخاصة و المصيرية، و التي أوصلته إلى الإغتراف عميقا من كتابات و أساطير الهنود الحمر (نعم الهنود الحمر) ، و عن القرابات الفنية الخفية التي لا تبلى و التي كانت تُحبِّب له من بين شعراء كثيرين (شكلّوا بدورهم، وبدون شك، علامات مُضئية في مساره الإبداعي القصير، و أسفاه) كائنا آخر متوحشا وغريبا ضالعا في التيه والتشرد الميتافيزيقي و الذي لم يكن في الأخير، إلا الشاعر العراقي المعروف سركون بولص .

حدست يومها (وقد كنا على وشك أن ننهي جولتنا المسائية بأزقة سلا الرطبة) أن الفقيد أحمد بركات كان يتكلم بحدّة لكي يواجه أكثر ذاته، كان يدع صوته يسري بخفة في شعاب الليل حتى يرتدّ إليه من جديد في مسار عودته الباطنية محمولا على الخيارات الواضحة التي كانت تختزن من القوة ما يعجز عن تصوره آنذاك عُقَمَاء و صانعوا زمن الثقافة البئيس. وبعد فترة زمنية منذ ذلك اللقاء الذي جمعنا، صار يثبت لنا شيئا آخر عبر نصوصه المتواصلة المقطّرة، التي أخذت طريقها المحتشم لاختراق سكينة فضاء المتلقي الجديد. بدأنا نعثر فيها على رعشة وجودية أخرى، كان يبدو بجلاء أنها منبثقة مباشرة من متاهة بحث شعري مضني ، يروم بلوعة و مُتْعة قصيّة، أن يخترع آلة بلاغية خاصة به، لا سابق لها في المشهد الشعري المغربي، متخمة إلى حدود الاستثناء، بأشياء العالم المحلي المألوف، بعلاقاته الخطرة غير المتوقعة، بمنعرجاته العنيفة، بأحداثه الفريدة العبثية أحيانا، والتي لا تُتَاح إلا للقلة في بلورة رؤيا خاصة، وتبقى هبة نادرة ينعم بها المصابين بلوثة الشعر…

في المستقبل وكما هو الحال الآن، سيتم هضم عمله بالطريقة التي لم يكن يتوقعها هو نفسه. سيتحول _ وهذا من باب التنبؤ ? إلى أُكلة رمزية مستساغة من طرف أولئك التعساء نُدّاب المناسبات الذين في بكياتهم المطولة على غيابه المفجع، يشطبون مزيدا بصنيعهم هذا، و دون أن يدروا، على حيوية لا غنى عنها، لعناق ممارسة شعرية فعالة مختلفة كليا عمّا عرفوه قبلها.

تقلبات الحياة الخاصة بهذا الكائن الشعري في الزمان و المكان، من المتخيل أنها كانت على درجة عالية من الحرية الطليقة المدهشة :

حركات جارفة في كل الاتجاهات، رحلات ومقامات تطول و تقصر على إيقاع رغبات متدفقة ؛ إنصات مركّز و متعدد لما يعتمل في ألغاز هذه الملهاة ?المأساة التي تسمى الحياة الشعرية ؛ تمرّس قوي بالكتابة و بدائلها ؛ وتحويل و توليد مستمر للعلامات ؛ خبرة بالرموز و القوانين و بأهواء البشر ، و بفولاذ هذه الحضارة المغربية الهجينة و بأوهامها الرمادية القاسية التي لم يستفق من كوابيسها أحد حتى الآن. للتأكد من ذلك ما عليكم إلا أن تفتحوا كراسه الشعري الوحيد ” أبدا لن أساعد الزلزال” و اقرؤوا ….إنها أبدية اللحظة التاريخية نفسها موقعة ذاتيا و مختومة شعريا و تسري سريان الدماء بين السطور :الدهماء لن يتركون الفرصة تمر دون تمرير اعتراض خسيس مثل هذا ” طبعا هذا شيء لا يصدق ” سيصرخون ..

أحمد بركات ، هذا الحي رمزيا ، خارق الجسد و الروح ، الآتي من ليل الكتابة و العابر لجغرافيا الهلوسات و الشاهد على هذيان التاريخ المغربي في أعتا وحشيته السياسية ،هذا الكائن الهامشي السعيد بما كان يبتكره سرا و علانية ، مسرعاً بقليل من اللهو إلى حتفه ، الشاعر الأعزل ، رجل التجربة- الحد المنتصب على حافة تخوم الكتابة و جنونها ،الواقف في مواجهة عراء الخارج و عنفه الأسطوري. يا للمعرفة المرحة ، يا للأناقة الفصيحة و يا للسخرية الرصينة لدى بركات. لقد عرف بحق كيف يقحم الفنتازيا في ترتيبات الحياة اليومية الرتيبة و المزعجة بقسوتها. ولا أعتقد أن من توصل من المتأخرين إلى فهم غاية مشروعه بالكامل سيتنكر لها بعد ذلك. ونحن نؤكد أن رغم هذا الاختفاء العقيم و المفاجئ بركات سيبقى كائن الشعر بامتياز (لكن ليس كما يخمّنه شعراء الألف والباء والتاء..) سورياليا للأزمنة المعاصرة (لكن بدون سذاجة المدعين القدامى وشعوذتهم الطقوسية التي لا تجدي في شيء) مجربا كبيرا للحياة ( رغم قصر عمره) فاتناً في نبوته الشعرية (عكس طُهْرانية المخصيين بلاغيا في أعضائهم الرمزية) كل هذا بكثير من التحرر و التماسك ، الذي يرسخ إلى حد ما في أثر بالغ القوة و الفرادة.

بركات الشاعر قاطن اللغة الشعرية، صائد الصور العنيفة، صاحب الوقت المغربي والغاضب المتكتم الذي يتوسّد الإعصار. إنك لم تمت و لن تموت أبدا… لا حاجة لنا بذلك الإلزام المرضي القاطع الذي أغابك عنّا ، إننا نرفع التحدي في وجهه بالوفاء إليك… ماذا تقول زوجتك و رفيقتك في الحياة في نصوصها (سعاد شرفي في قصائد “أوضاع إنقلابية”): إن العمر شريان تاه لدهرين و كروم الليل ….” صدقت أيتها الكائنة الملسوعة بضربات الزمن، كل شيء يقع وراء المرايا، في البدايات التي لم تبدأ بعد ، في قلب السديم ذاته

لن نقول وداعا بركات و لن ننعيك أبدا .. :

” لا احد يلتحم بالشاعر (…) الشعر لا يُقايض ….” / يصيح جورج حنين بحرقة في أحد نصوصه اللاهبة .. .

غابوا وهم في عز الوعد بالعطاء
أشهر ثلاثة شعراء مغاربة رحلوا باكراً
المصدر : (الرباط - حكيم عنكر:)
رحلوا باكراً، تخطفهم غراب الموت، وهم في ريعان الشباب، شعرهم وحياتهم كانا يهجسان بذلك، ونقاء سريرتهم كان الملمح الأبرز في عبورهم السريع . هذا حال ثلاثة شعراء من شعراء التجربة الشعرية الجديدة في المغرب، الجامع بينهم أنهم انتبذوا الهامش مستقرا لهم، حتى وإن كانوا قد عاشوا في مدن كبيرة أو شديدة التلون . وتكمن فاجعة فقدهم في الوعود الكبيرة التي كانوا يحملونها للشعر المغربي الحديث . وهؤلاء هم الشعراء أحمد بركات، وكريم حوماري، ومنير بولعيش .

الأول دهمه المرض وهو في استواء تجربته الشعرية، عندما أصدر ديواناً أبداً لن أساعد الزلزال، قبل أن يجمع له الأصدقاء بعد رحيله ديواناً من متفرقات نصوصه، أطلقوا عليه اسم دفاتر الخسران، عاش في مدينة الدار البيضاء، الضاجة والصاخبة . والثاني هوئ كريم حوماري، ابن مدينة أصيلة الهادئة، اختار بشكل مخيف وإراديّ، الانتحار ولم يصدر عمله العري إلا بعد موته، عندما أقدم لفيف من أصدقاء مدينته في جمعية الإمام الأصيلي على طبع ديوانه تقاسيم على آلة الجنون . والثالث هو الشاعر الشاب، الضاج بالحياة، منير بولعيش، ابن مدينة طنجة الدولية، توفي هو الآخر وهو بصدد الإعلان عن نفسه كاسم جديد في الساحة الشعرية المغربية، أصدر قبل موته ديوانه الذي حمل عنواناً غير مألوف لدى جيله لن أصدقك أيتها المدينة .
فمن يكون هؤلاء الثلاثة من الواعدين الكبار؟ وما هي مناخاتهم الشعرية؟ وكيف كان الموت يختلّ في تلابيب كلمات نصوصهم؟
أحمد بركات
لا يساعد الزلزال
استطاع الشاعر أحمد بركات، منذ نصوصه الأولى، أن يحجز له مكاناً متقدماً عن أقرانه في الساحة الأدبية في المغرب، وساعده على هذا الحضور الجو الذي كانت توفره مدينة الدار البيضاء في ذلك الوقت، والتي كانت حاضنة لعدد كبير من الكتّاب والشعراء والمفكرين المغاربة، فهنا كان يقيم الشاعر الراحل عبد الله راجع، الذي تميّز بانفتاحه على الشباب المغربي وعلى التجارب الجديدة، وهنا يقيم أيضاً الشاعر إدريس الملياني، الذي كان يشرف على الملحق الثقافي لصحيفة البيان، وفي هذه الجريدة كان الشاعر أحمد بركات يشتغل، إضافة إلى عددئ آخر من الشعراء والفنانين والمجموعات الغنائية الملتزمة، التي كانت تشكل جواً عاماً يميز مغرب الثمانينات، بالكثير من التحولات .
ميزة أحمد بركات أنه ابن الدار البيضاء وليس وافداً عليها، كما هو شأن غيره من الشعراء، ومن ثم يمكن القول إنه يجسّد، إلى حد ما، شعر المدينة، وشعر المدينة الكبيرة على وجه التحديد، وفي شعره سنجد ملامح من هذا الحضور المديني، كما سنجد تحللاً من الخطاب الشعري، ذي النبرة الإيديولوجية العالية، شعره أقرب إلى التزام من نوع آخر، التزام مع الذات وحدها، الذات التي تحيا في هذا العالم وتتنفس كل أسياخه رغماً عنها .
ولد أحمد بركات في الدار البيضاء سنة ،1960 وفي سنة 1994 توفي في إحدى مصحاتها .
اشتغل صحافياً في جريدة البيان، وحصل على جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب سنة 1990 . صدرت له مجموعتان شعريتان هما: أبداً لن أساعد الزلزال، عن منشورات اتحاد كتاب المغرب -،1991 ودفاتر الخسران، عن منشورات اتحاد كتاب المغرب 1994 .
أهمّ ما يميز شعر بركات هو لغته الحادة، وعين الصقر التي يتحلى بها، لقد كتب بلغة جديدة أدهشت مجايليه من الشعراء، وربما في الحياة التي كان يحياها، أتيح له أن يقبض مبكراً على إكسير الشعر وأن يجرب خلطاته السحرية مبكراً .
جملته وقادة، نارية، وغير مثقلة بالحشو اللغوي ولا يحتاج إلى كثير من اللفّ والدوران للذهاب إلى فكرته . لقد جاءت قصائده وكأنها بيانات حربية صغيرة لشاعر يريد أن يغير، لكنْ ما هذا التغيير الذي يريده؟ إنه التغيير الصعب والأفدح: البحث عن لغة جديدة للشاعر الجديد .
يقول في مفتتح قصيدته أبداً لن أساعد الزلزال ما يلي: قلب شاعر في حاجة قصوى إلى لغة .
عدا هذا العبء الثقيل، الذي أراد أن يحمله وحده، فإن نصوصه كانت بمثابة حروب صغيرة، أو لنقل بالوصف الدقيق، خسائر جنديّ يحارب في جبهة لا يعرفها ويتحمل، بشجاعة دونكيشوطية، نتائج الحروب التي يزجّ بنفسه فيها .
هذا، إجمالاً، هو العالم الشعري لهذا الشاعر، الذي عاش حياة قصيرة، كان فيها واعداً منذ البدء وخاض، بشجاعة أدبية كبيرة، معركة الانتماء إلى نفسه وقصيدته، فكان الثمنُ حياته، التي فتك بها المرض سريعاً، في تجاهل تام من الوسط الأدبّي المتنفج .


في التاسع من سبتمبر من سنة 1994، رحل الشاعر المغربي أحمد بركات وهو لم يتجاوز 34 عاماً. لم تكن وفاته المبكرة هي التي صنعت نجوميته وتألقه الشعريين، ولكن شعره تألق وهو على قيد الحياة، حين توج بأول جائزة لاتحاد كتاب المغرب سنة 1990، عن ديوانه الشهير “أبدا لن أساعد الزلزال”، والذي أحدث، بحق، زلزالا في الأرض الشعرية في أواخر الثمانينات وبداية التسعينات.
وهكذا، خلد بركات اسمه ضمن قائمة الشعراء الذين رحلوا باكرا، ولكنهم ظلوا مقيمين في ديوان الإنسانية الكبير، من طرفة بن العبد إلى بايرون إلى شيليب إلى رامبو إلى بوشكين وماياكوفسكي ولوركا، ومن فروغ فرخزاد إلى سيلفيا بلاث، هذه الأخيرة التي كادت تكمل الثلاثين من العمر دون أن تموت، فقررت الانتحار، وماتت لتكون من الخالدات.
هذا ما فعله بركات، ربما، فقد مات ليبقى على قيد الحياة. أليس أحمد هو الذي كان معجبا بعبارة نحتها المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي عن نيتشه، تقول: “إن جدارة الإنسان هي أن يستحق موته بين الموتى”.
عبر فرنسا
كرمت جمعية “إنسانية وثقافة” الشاعر بركات مؤخراً في مدينة فرونتينيون، وقدمت مختارات من أعماله الشعرية إلى الثقافة الفرنسية والفرنكوفونية، في لقاء حافل بالمدينة المتوسطية، جنوب فرنسا، ضمن حلقة جديدة من سلسلة “لقاءات الجنوب”.
وقد اختارت الجمعية الفرنسية، التي تترأسها الشاعرة الفرنسية الشهيرة نيكول درانو وزوجها الشاعر جورج درانو، تكريم الشاعر المغربي الراحل، من خلال تقديم وعرض تجربته، وترجمة مختارات من أعماله إلى الفرنسية، وطبعها مرفقة بلغتها الأصلية. وقد قام بترجمة نصوص الشاعر محمد ميلود غرافي، والذي عرض لتجربة بركات في المشهد الشعري المغربي في ثمانينات القرن الماضي. وتمت ترجمة أشهر نصوصه، وفي مقدمتها “أبدا لن أساعد الزلزال” و”بائعة الخبز” و”هذا هو الكرسي” و”انتهى الطريق” و”مجاز للأصفر”…
وبهذا تكون ترجمة أشعار بركات إلى الفرنسية بمثابة ترجمة لحلم راود الشاعر، الذي كان يتمنى قراءة أشعاره بالفرنسية، مثلما سعى في حياته إلى ترجمة قصائد لشعراء فرنسيين أثّروا في تجربته الشعرية، وفي مقدمتهم الشاعر كلود روي، الذي افتتن بشعره، وظل، طوال حياته، حريصا على ترديد صورة شعرية يقول فيها “لا تطرق الباب قبل أن تدخل، فأنت هنا منذ البداية”. كما ظل بركات يعرِّف الشاعر بلسان هذا الفرنسي: “الشاعر من يؤلمه القلب، تؤلمه الأرض، تؤلمه اللحظة. الشاعر من يقول: أنا ورأسي للآخرين”.
على أن افتتان بركات بديوان “الشعر والشعراء الفرنسيين” لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد إلى عشق فرنسا بأشعارها وأنوارها، فقرر منتصف ثمانينات القرن الماضي الهجرة إلى فرنسا، حيث قضّى هناك نحو سنة يحاول أن يكتشف نفسه في مكان آخر، كما جاء في إحدى رسائله التي بعث بها من باريس. واليوم، ها هو الشاعر المغربي يظهر في فرنسا من جديد، وفي ضاحيتها الجنوبية، مؤكدا أن الشاعر كائن أبدي.
شخصية إبداعية
من ناحية أخرى، أصدرت وزارة الثقافة المغربية، مؤخرا، الأعمال الشعرية الكاملة للراحل. وإلى جانب ديوانيه المعروفين واليتيمين “أبدا لن أساعد الزلزال” و”دفاتر الخسران”، ضمت الأعمال الكاملة، وعلى امتداد نصف المجلد، قصائد لم تنشر تعود إلى بداياته وبواكيره.
وبصدور أعماله الكاملة، يكون أحمد بركات أصغر شاعر يحظى بهذا التقدير، من جيل الثمانينات، بعدما توقفت الأعمال الكاملة على شعراء الخمسينات والستينات والسبعينات، من محمد الصباغ إلى محمد السرغيني، ومن عبدالكريم الطبال إلى محمد الميموني، ومن مليكة العاصمي إلى إدريس الملياني، فالمهدي أخريف.
وهي الأعمال الوحيدة التي تم تصديرها بمقدمة خاصة. وما يضفي عليها أهمية أكبر، وحميمية أشد، أن كاتب المقدمة ليس سوى شقيق الراحل الكاتب والصحفي عبدالعالي بركات.

بركات مات ليبقى على قيد الحياة

يكشف لنا عبدالعالي أن أحمد، وقبل أن يكون شاعرا، تردد على الكثير من الفنون والرياضات، فقد كان يحمل، بقامته الفارعة، حلم حارس مرمى لكرة القدم، وكان بصوته الجهوري وجسده المتوثب مشروع ممثل مسرحي، أدّى أدوارا معبرة ومؤثرة مع فرقة “حوري الحسين” متنقلا ومترجلا على قدميه من حي عين الشق إلى دار الشباب بوشنتوف، على بعد المسافة.
كما كان الشاعر، منبهرا، على غرار أبناء جيله، بالأغاني الثورية والاستثنائية لـ”أغاني الجيل”، من مجموعة “ناس الغيوان” إلى مجموعة “لمشاهب” إلى مجموعة “جيل جيلالة”. وكان يعزف على آلة “الطمطام” التي اشتهرت لدى هذه الفرق، وتأثره بشعرية “كلام الغيوان” واضح في الكثير من قصائده. بل ويحكي لنا أخوه عبدالعالي بركات كيف أن أحمد كان يتمنى لو غنت مجموعة “لمشاهب” قصيدة من قصائده، على ما فيها من غنائية وثورية معا.
الرحلة الناقصة
لم يكمل بركات تعليمه الجامعي، غادر الجامعة في السنة الثالثة وقبل الأخيرة. ويحكي الشاعر السبعيني محمد الشيخي، أنه عندما كان أستاذا بكلية عين الشق بالبيضاء، نهاية الثمانينات، أن بركات عرض عليه الإشراف على رسالته الجامعية، للموسم المقبل، وكانت الفكرة عن موسيقى الشعر المغربي المعاصر، غير أن الشاعر سوف يتخلى عن الفكرة، ولن يعود إلى الجامعة، بعدها. وقد كانت الحاجة إلى كسب “الخبز اليومي”، في “الفرن اليومي” لمهنة المتاعب، هي التي عطلت الكثير من أحلامه ومشاريعه المشروعة.
لكن أحمد هو الذي مات. فبعد زواجه بالسيدة سعاد شرفي، وإقامته في بيتها في حي “الصخور السوداء” بمدينة الدار البيضاء، سوف تتصل الزوجة بأسرة بركات لتخبرهم بأن المرض اشتد على أحمد. ظهر الخبر يومها في إحدى الجرائد الوطنية “الشاعر أحمد بركات بين الحياة والموت”. وهنا، تحرك اتحاد كتاب المغرب، على عهد محمد الأشعري، وتقرر نقله إلى مصحة “الحكيم”، بجوار مستشفى 20 آب، حيث ظروف أفضل للعلاج، غير أن الأوان كان قد فات، ولم يلبث بعدها أن لفظ أنفاسه الأخيرة هناك.
سيرة شعرية
شكل ظهور ديوان “دفاتر الخسران” بعد رحيل أحمد بركات فرصة لاستكمال النظر إلى تجربته الشعرية وامتداداتها، وإلى تطور التجربة، وتحولاتها، خاصة وأن تجاوز ديوان ناجح، بحجم “أبدا لن أساعد الزلزال” كان مهمة صعبة.
وقد تم جمع قصائد “البدايات”، وتشمل الفترة من 1979 إلى 1983. هي قصائد صارخة، وإن لم تكن حماسية، تحمل وهج التجارب والصيحات الشعرية الأولى، وتنطق باسم “الصوت المتمرد”، كما هو عنوان أول قصيدة للشاعر، وهي “قصة العجلة والصوت المتمرد”. ومنذ أول كلمة في العنوان، يتأكد الالتباس، ما بين القصة والشعر. على أن بركات هو شاعر قصيدة النثر الخالصة في المنجز الشعري المغربي.
في هذه القصيدة تمرد صريح على ما يسميه الشاعر “قانون الصمت الصارم” و”قانون الصمت المحكم”. وفي قصيدة أخرى من هذه المرحلة، وهي قصيدة “هجرة الألم إلى عينيك الرافضتين” يخاطبها الشاعر، هي المرأة أو القصيدة أو الريح أو الثورة منشدا: “أيتها الثائرة ضد معالم الصمت الرافضة”. ويعود الشاعر ليُصَدِّرَ قصيدة “الناقوس” بعبارة حاسمة “الخروج من دائرة الصمت، أو تحطيم هذا الجدار الذي يقسمني نصفين ويفصلني عن الفرح”.
وكان ناقد عراقي هو عبدالقادر جبار قد انتبه إلى ما يسميه “شعرية الرفض” عند بركات، وهو يتناول تجربة بركات الشعرية في كتابه النقدي “غربة النص”. بل يمكن القول إن بركات إنما كان يكتب قصيدة الرفض، وهو يعلن في إحدى قصائده الجميلات، والمهداة إلى جميلة: “هذه فاتحة الرفض أكبتها!”.








لن أساعد الزلزال
barakate
أحمد بركات
(1960-1994)

حذر، كأني أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم
الأشياء الأكثر فداحة:
قلب شاعر في حاجة قصوى إلى لغة
والأسطح القليلة المتبقية من خراب البارحة
حذر ، أخطو كأني ذاهب على خط نزاع
وكأن معي رسائل لجنود
وراية جديدة لمعسكر جديد
بينما الثواني التي تأتي من الوراء تقصف العمر
هكذا
بكثافة الرماد
معدن الحروب الأو
لى تصوغ الثواني صحراءها الحقيقية
وأنا حذر ، أخطو نحوكم وكأن السحب الأخيرة تحملني
أمطارها الأخيرة
ربما يكون الماء سؤالا حقيقيا
وعلي أن أجيب بلهجة العطش
ربما حتى أصل إلى القرى المعلقة في شموس طفولتكم
علي أن أجتاز هذا الجسر الأخير وأن أتعلم السهر مع أقمار
مقبلة من ليال مقبلة حتى أشيخ
وأنا أجتاز هذا الجسر الأخير
هل أستطيع أن أقول بصراحتي الكاذبة : لست حذرا لأنني
أعرفكم واحدا واحدا ؟
لكن ، أين أخبئ هذه الأرض الجديدة التي تتكون في عين
التلميذ ؟
وماذا سيقول المعلم
إذا سأله النهر ؟
حذر ، ألوح من بعيد
لأعوام بعيدة
وأعرف - بالبداهة - أنني عما قريب سأذهب مع الأشياء
التي تبحث عن أسمائها فوق سماء أجمل ولن أساعد الزلزال
فقط ، سأقف لحظة أخرى
تحت ساعة الميدان الكبيرة
هناك العربات تمر بطيئة
كأنها تسير في حلم
هناك قطع الغيم في الفضاء
لا تشبه سرب طائرات خائفة
هناك امرأة تقترب من الخامسة مساء تنتظرني
سأذهب عما قريب
دون أن أعرف لماذا الآن أشبه الحب بكتاب التاريخ
أحب
أحيانا أتوزع قبائل تتناحر على بلاد وهمية
أحيانا أضيع
ولكنني دائما أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم

نشيد المنتحرين
هاهي الخطوات
وإيقاع الخطوات
هاهي الخطوات ثانيا
وكما لو كنا نمشي وراء شجر ولهان
نرفع بالسلام التام للصنوبر
بقبعات الدوم عاليا
نصحب الفصول مع الصفصاف حزينا أو فرحانا
بالجنون الأخضر نطرق باب الخوخة
ونعرف جيدا تاريخ الغابة السري
ثم ونحن ابتعدنا كثيرا ، ثم انحرفنا قليلا
كما لو كنا سنقف باللغة على حافة المدينة
نمشي وراء نساء آيلات للسقوط
كما لو كنا نمشي قرب مسرح العرائس المخذولة
هاهي الخطوات
وإيقاع الخطوات
هاهي الخطوات ثانية
ومن النافذة الثالثة في الخراب الجميل الذي عبرناه أطل الطفل
قبل منعطف المشهد بقليل وكان سيودعنا
نحن الذين كنا سنختلس المسافة كلها
من أجل وهمنا
في هذا الليل الأخير
نتحرك مثل مصارعين تجرهم نزوات غامضة
الوشم وحده واضح وشديد
وأذكر - اليوم - رقمناه على أذرع من معدن مولوي
صيرناه دليلنا الحركي
كلما تفرقنا في غرف ملتبسة
قبل منعطف المشهد بقليل
انتبهنا لآلهة بأوسمة عديدة تتراجع بجلال والأب الأعمى
وحيدا يموت بالنشيد الكبير
هذا أفول كبير
ما تبقى سيقوله قمر هذا الليل الأخير
وحتما سيسطره في الأبعاد السفلى

من أهمل القمر؟
من أهمل القمر
وفي الليل كل صيف هناك أزواج متغيبون ونساء القرى
يصعدن في الضوء سرير الوحدة صامتات
وأنا أقول هذا لأنني كنت هناك
وكنت أفكر مليا قرب حذاء جندي قدي
وأنت ماذا تقول لذباب المحطة ؟
ماذا تصنع الآن ؟
أنا حين وقعت في يدي الورقة الرئيسية للزهرة النابتة في الريح
أعدتها للريح
وصعدت سلمي
دون أن ألتفت للعربة الأخيرة تمر منتحبة
دون أن أكترث
بالحديد المبلل
صعدت
وسألت القبرة التي حطت على أسلاك الهاتف :
لماذا يقطع الطفل أصابعه
ألأن آلة العمر حديثة ؟
ولماذا انتحر شبيهي
هذا الانتحار ؟
سألت حين صعدت
وجاوبتني الخطوات
وإيقاع الخطوات
وجاوبتني الخطوات ثانية

الأرض
الأرض ليست لأحد
الأرض لمن لا يملك مكانا آخر
الأرض عباءة الموتى
والأرض عراء
الأرض درب
مقيمون وجوالون
الأرض شارع بأعمدة وعابرين
الأرض قفص عصافير ومداحين
الأرض حانوت الهم
عويل العربات
الأرض غبار
الأرض مقهى مفتوح ليل نهار
الأرض مسجد صغير
به حرم صغير
فيه قبر صغير
عليه شمعة صغيرة أيضا
الأرض في كف صبي يقف عند باب المسجد
الأرض في كفه قرش واحد
والأرض ليست لأحد
الأرض لمن لا يملك مكانا آخر

الصحراء
الصحراء الساعة الرملية في معصم الريح
والوقت لم يحن بعد
هكذا هي الصحراء على حدود دمي

الحاكم العام لا يقول الصراحة
أنا الذي كنت أراقبه
حين ترتعش الخريطة وهي في يده
تسقط صورة كانت على الجدار
تسقط كأس كانت بين عشيقين
حين تسقط الخريطة وهي في يده
اسأليني أنا الذي كنت أراقبه
إن كان سيحتفظ بهذه الأسماء
أو سيمزقها
ويرمي بها في وجه الأرض
إ سأليني أنا
إن كان سيسلمك مفاتيح الحبس القديم

هذا هو الكرسي
عليه يستوي الصانع الملول
كما تستوي باقة الورد المجهولة
وعليه تستريح الفصول
عليه يستوي المعطف
مثلما يستوي الملوك
وعليه تستريح الأرض إذا أكملت دورتها..
.............
أحمد بركات وتجربة الانحراف بهواجس الكتابة نحو الداخل
شاعر مغربي من جيل الثمانينيات لم يساعد الزلزال...
نشر في المساء يوم 30 - 10 - 2009

تتسم تجربة الشاعر الراحل أحمد بركات بعنف داخلي موصول بمهاو وجودية بلا قعر. وهو نموذج للشاعر الذي عاش تجربة الكتابة بتمزق
لا ينفصلُ فيه الجسد عن الروح.الانقطاع عن الدراسة الجامعية، في حالة أحمد بركات، يكشفُ عن انحياز لمصادر أخرى للمعرفة، لا تنفصلُ فيها اليدُ الكاتبةُ عن جسدِها، وهي تختبر حدود الأهوال. إن أحمد بركات الذي اخترق زمنَه الشعري بقوة غير معهودة، وكثّف كلّ زمن الشعر، في سنوات قليلة من عمره القصير، يُذكر بنسب رامبوي، نادرا ما يتمُ الالتفات إليه. وربما كان هذا النسب، هو الذي دفع الشاعر إلى اختبار معرفة الشعر في غير فضاء المؤسسة. لم يُباشِر أحمد بركات برنامج اختلال الحواس، ولكنه لم يتوان عن تجريب ما يجعلُ من رؤيته الشعرية رؤية مختلفة، بإيقاعها وحدوسها ومهاويها الميتافيزيقية. من الجسد، تبدأ المعرفة الشعرية، هذا هو الدرس الرامبوي الذي يبتهج أحمد بركات بالانتساب لأفقه، فيما هو يقرنُ الشعرَ بتجربة التسكع واختبار الهلاك.
لأحمد بركات كتابان شعريان: «لن أساعد الزلزال»، الذي أشرفَ على ولادة شاعر مختلف، و«دفاتر الخسران»، الذي سهر على حداده. وبين الولادة والحداد، يتكثفُ زمن الشعر، ليحول تجربة في الحياة، إلى تجربة حدودية في الكشف والرؤيا، بها تهجسُ القصيدة، وتصدرُ عن ميتافيزيقاها، لتضيء أكثر شجرة نسب الشاعر.
إن دوال «الزلزال»، «الدفاتر»، و«الخسران»، التي تبني عتبة العنوان، في ديواني أحمد بركات، توجه القراءة إلى خصوصية تجربة، تُقيم بين فعلين حدوديين، لتظفر، من مجهول الشعر، بدفترِها الشخصي. إنهما فعلان موجهان إلى الداخل، ليجعلا من «الخسارة»، ضربا من «الاختلال»، الذي «يكسِب» من ورائه الشعرُ، فيما هو يُحافظ على تواضُعِه أمام المجهول. ولعل دال ال«دفاتر»، يُؤشر على هذا البعد، في الوقت الذي يُجسِّد مسافة، تفصله عن مفهوم «الكتاب» بجلاله المالارمي وإيحاءاته الميتافيزيقية.
لم يُخصِّص أحمد بركات قصيدة تضيءُ مفهومه للشعر والشاعر. وإنما جاء هذا المفهوم مبددا في ثنايا بعض النصوص، دون أن يُخفي أصداءَ ما تزال ترن في ثنايا بعض الصور، كما في معجم وتراكيب، تنعطف أحيانا بالقصيدة، نحو غير المتوقَّع في البناء كما في الدلالة.
تُسعف قصيدتا «لن أساعد الزلزال» و«نشيد المنتحرين»، ببناء المبدد في هواجس الكتابة عند أحمد بركات. القصيدةُ الأولى تتوسل بضمير المتكلم المفرد، فيما تنفتح الثانية، كذلك، على المتكلم الجمع، دون أن تكون دالة على محفل جماعي، يتقيد ببرنامج آخر غيرِ الشعر، مستظلا بشجرة أنسابه من الشعراء «المنتحرين». إنَّ تجربة «الانتحار» تُستدعى هنا كمجاز شعري لتجربة حدودية يتورَّطُ فيها الشاعر مع أشباهه من الأنداد. وهنا يؤسس شِعرُ أحمد بركات لأول حد من حدوده، مُجسَّدا في وصل الشعر بتجربة الهلاك. وليس دال الحذر، الذي يفتتح النشيد الشعري لأحمد بركات، غير تحييد، مشوب بالارتياب، لكل ما يضلل الشاعر عن رهانه الأساس.
يصل فعلُ «الحذر»، تجربة الشاعر، مرة بفعل «اليد»، وأخرى بفعل «القدم». مستهل الديوان، يضيء ذلك: «حذر كأني أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم/ الأشياءَ الأكثر فداحة: قلبَ شاعر في حاجة قُصوى إلى لغة/ والأسطُح القليلة المتبقيةَ من خراب البارحة/ حذرٌ، أخطو كأني ذاهب على خط نزاع..»
(ص. 5).
إنَّ فعلَ الحذر، وهو يَتحوَّل إلى دال إيقاعي، يفتحُ للنص سُبل تناميه، مؤمِّنا للشاعر إمكانية حماية التجربة من كل ما يُحوِّلها عن انصبابها على الجهر. والعالم، في هذا السياق، لا يكون فضاءً للتجربة إلا من موقع توتر، يجعل الشاعر في بحث دائم، ومحموم، عن «لغة» قصوى، تستوعب خطوته المستكشفة للأرض. ودال «كأن»، الذي يسمح لنفسه بتكرار إيقاعي في القصيدة، يُسعف في توسيع أبعاد الوجود، عبر ممارسة فعل تخيل، يؤسس لتجربة شعرية تلتبس فيها الحدود، حدود الذات والعالم، في آن واحد.
يضيف الشاعر: «ربما حتى أصل إلى القرى المعلقة في شموس طفولتكم/ علي أن أجتاز هذا الجسر الأخير وأن أتعلم السهر مع أقمار/ مقبلة من ليالٍ مقبلة حتى أشيخ» (ص.6) .
إن فعل الخطو لا يستحضر «الجسرَ» إلا لينتقل إلى الضفة الأخرى من العالم، مُجَسَّدا في «شموس الطفولة»، و«أقمار» الليالي المقبلة. وبين هذين التخمين، يتحدّر زمن شعري يستشرف التعلق بالينابيع، التي تجعل «الخطوة» تنطلق من «طفولة» الذات، لتُنصِت لوقعها الغامض في مجهول أرض المستقبل. وفعل «السهر» يجعلُ «خطوة» الشاعر، التي تبدو بلا تاريخ، متعهِّدة لما يبقى، مُجَسَّدا في رؤيا مُرعبة: «وأعرف بالبداهة أني عمَّا قريب سأذهبُ مع الأشياء/ التي تبحث عن أسمائها فوق سماء أفضل» (ص7).
إن البحث عن «الاسم»، سيكلِّف أحمد بركات حياته ل«يتحول جسمه إلى كلمات». وقبل أن تفترسه هذه الرؤيا، سيواصلُ الشاعر تجربته «لحظة أخرى»، يلتبس فيها الواقع بالحلم، وتتحول فيها الأشياء إلى قصائد. وهي اللحظة، التي سيوقع فيها الشاعر ديوان «دفاتر الخسران»، مجسِّدا أبلغ نموذج يسهر حدادا على شاعره.
لمواصلة بناء المُبَدد، نفتحُ «دفاتر الخسران» على شذرات أكثر تصميما في قول هواجس الكتابة. ولعل قصيدة «حذاء واحد لكل الطرق»، بنصوصها الثمانية، تقدمُ فضاء نصيا أكبر لتأمل فعل الكتابة، موصولا بما يجعل منه فعلا مُختَرَقا بإيقاع الذات الكاتبة، وهي تؤسِّسُ لمفهومها عبر فعل التجربة أساسا. من القصيدة، ننتقي هذه النماذج الشعرية الدالة: عليكَ أن تتحركَ بعنف، وأن تنتقل بين الزوايا الأشد توترا، لكي ترى الصورة...(ص81) / ثمة حركة خطيرة، لكن العين الثابثة لن تُدركَها، وتحتاج أمس ما يكون الاحتياج / إلى عين متحركة على إيقاع من أقاصي اللذة والألم. (ص. 82)/ لذي شيء ما أشبه بخبز إلهي، وأريد أن أقتسمه مع أي كان في عشاء أخير (ص87) / أريدُ من يسمع مني ما رآه الشاعرُ في منامه إذ قال: «... وتحولَ جسمي إلى كلمات...» (ص.89).
إن دوال: الحذاء، الطريق، الصورة، العين، الحركة، الألم، اللذة، الأرض، تتواشج استعاريا، لتبني صورة الشاعر المشاء، الذي يُحَول تجربة في الحياة إلى تجربة في الكتابة. ويأتي دال الأرض، في آخر متوالية، ليغرس التجربة ضمن بُعد أنطولوجي، عبره يحيا الإنسان شعريا، على إيقاع من الألم اللذة، الذي يجعل «طريق» الشاعر منبثِقةً من خطواته، كما يجعل رؤاه صادرة، عن عينه المتحركة «العين الثالثة».

................

عشرون عاما مرت على رحيل الشاعر أحمد بركات، وهي نفسها السنوات العشرون التي لم تستطع بمرورها تغييب قصيدته. هذه القصيدة التي تَلمع بشهوة الشعر وطراوته. قصيدة بمَسلكيات، فَذة اتخذت لنفسها رفا مميزا وسط مكتبة الشعر العربي المعاصر.
فلغة أحمد بركات التي تحضر دائما في نصوصه معتدة بقلقها ونبيذها، والتي طالما حاول نقاد كثيرون فك شيفرتها التي يَدسّها من غير تخطيط، وهي شيفرات رَوّضت الخطاب النقدي على ترك مسلماته وتقنيات أدواته وإعادة صياغة مقولاته من داخلها.
فقصيدة أحمد بركات، المزدانَة بمُعجم شعري وضيء، يَنطلق من وجدانية صداحة، ومَعرفة آهلة عَرفت كيف تُفيد من المنجز الشعري العربي والكوني وتَهضمه تمام الهضم، لتتقدم به خطوات إلى الأمام داخل علبة / لعبة التجريب في قصيدة النثر العربية، فالتجريب سِمة أساسية تَلتصق بكل شعرية ذات نسغ مغاير وعظيم ،وكذلك كان فعل الكتابة عنده بِنزوحه نحو تَنسيب الثوابت، واختراق البداهة، إلى جانب كبح المتعاليات البلاغية ليجنح إلى السؤال بحتا واختيارا وطلبا للأجمل، وهو جنوح يُؤثث تأسيسه بدِربة كبيرة من التجربة والاختمار، تَحرقها الرغبة الأكيدة في اندغام الشاعر ذاتا بلغته لهَذا تجد هذه اللغة لا تَستريح في شكل مستقر. لغة يعلوها دائما غبار المغامرة ..كلماتها تتناسل تلقائيا ..بيضاء كجبنة القرية .
يعتبر أحمد بركات، أحد أوائل مجايليه ممن ركبوا غمار التجريب، في قصيدة النثر بمعناها الحديث والمعاصر ..التجريب عند هذا الشاعر لا يمكن النظر إليه إلا بِوصفه -وهذا مما لا يمكن اغفاله- مشروع رؤية فنية تَحُثّ بعضها البعض على المغامرة والاجتهاد، وتَجَاوز الجاهز في تَحَد واضح لتقليدانية مُتَرسخَة في الأدْهان، لم يسلم منها مدّعون كثيرون حتى يَومنا هذا.
فالقصيدة هنا، والتي تَحتفظ بِنكهتها الخاصة، المُتأسسة على ضوء المغايرة والإجتهاد - بجوهرية تأملية مضاعفة - لا تَنغمس في خَانة التزويق والإئتلاف، الأشبه بطرق تعليب المواد الإستهلاكية .. قَصيدة لا أحفل كَثيرا بإضافتها إلى مُذكر مُعرّف مَجازا هو النثر، فقصيدة أحمد بركات يليق بها أكثر وصف: القصيدة الكرستالية أو القصيدة البيضاء ..قصيدة بدون ألقاب أو نياشين ..بصفاء يفتعل تقويض النمذجة، والتَمرد على الإنتماطية موصول بنظافة اللغة الممهورة بلمعان أساليبها، وغزارة معانيها، وهو ما يَهبها الحيوية والجدالية المُستمرة بتدبيج دهشتها. فتجربة هذا الشاعر وجيزة من حيث الإمتداد الزمني، وكَبيرة فيما يهم قوة ما سطرته من منجز شعري وجمالي له ما يؤكده ويدل عليه .
يقول في مستهل ديوانه " أبدا لن أساعد الزلزال "، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1991
«حذر كأني أحمل في كفي الوردة التي توبخ العالم/الأشياءَ الأكثر فداحة: قلبَ شاعر في حاجة قُصوى إلى لغة/ والأسطُح القليلة المتبقيةَ من خراب البارحة/ حذرٌ، أخطو كأني ذاهب على  خط نزاع..»..» ص. 5
يذهب الإعلامي عبدالحميد جماهير إلى  أن الشاعر الراحل أحمد بركات، عاش سريعا وعاش طويلا وعاش في قسوة ورحل سريعا أيضا، لكن حياته كانت ذاكرة لحياة جيل، بمعنى أنه كان يمتلك نفس ملامحه، وهو عوض أن ينشغل كثيرا بالأسئلة والماهيات، كان يحتفل بالنصوص التي تتموقع فيها ملامح جيل أو قصيدته الشخصية، فعاش دائما على حافة الألم، وعلى مقربة كبيرة من العذاب، أتوقع اليوم أننا نعيش ميلادا جديدا له، كان يبحث في الواقع عن اللغة التي سيفاجئ بها العالم، وحين لم يجدها في الحياة، ربما وجده في النفس الأخير من العدم...
يقول الشاعر : وأعرف بالبَداهة أني عمَّا قريب سأذهبُ مع الأشياء/ التي تبحث عن أسمائها فوق سماء أفضل»  "(ص7) أبدا لن أساعد الزلزال "،
يضيف الشاعر: «ربما حتى أصل إلى القرى المعلقة في شموس طفولتكم/ علي أن أجتاز هذا الجسر الأخير وأن أتعلم السهر مع أقمار/ مقبلة من ليالٍ مقبلة حتى أشيخ» "(ص6 )  أبدا لن أساعد الزلزال "،
سؤال الموت والرحيل، ضل تيمة أساسية في شعر أحمد بركات، الذي كان ارتباط وعييه في دخيلته راسخا بمُمارسة السؤال، الذي لم تخنه المسافة الجمالية والمعرفية،  ليَندغم به وله في فعلانية إبداعية، قلّ وفائها عند كثيرين من المشتغلين على القصيدة في وطننا الحبيب هذا.
  يقول في نص :
 «ربما حتى أصل إلى القرى المعلقة في شموس طفولتكم/ علي أن أجتاز هذا الجسر الأخير وأن أتعلم السهر مع أقمار/ مقبلة من ليالٍ مقبلة حتى أشيخ»  "(ص6 )  أبدا لن أساعد الزلزال "،
ويقول في نص أخر
 لذي شيء ما أشبه بخبز إلهي، وأريد أن أقتسمه مع أي كان في عشاء أخير (ص87) / أريدُ من يسمع مني ما رآه الشاعرُ في منامه إذ قال: «... وتحولَ جسمي إلى كلمات...» "(ص89 )  أبدا لن أساعد الزلزال "،
 نصوص بركات شقراء الروح بالضرورة كرغوة "البيرة"، والتي أنظر إليها - كرجل رائع حديث العهد بالحانات. فالشعر يأتي من المنسي والمِفجاج والابْتعاد ما أمكن عن البلاغة وعَضلاتها، أما هنا فَهو مَحض نِيابة عن الذات. ذات الشاعر التي تَحضر كسند لقصيدته، وهو حضور مُصاحب لرؤية تستطيع أن تستأنس بإضافة صفة خلاقة لها.
 فتجربة هذا الشاعر، المتميزة بالتصاقها الحميم بجوهرية الشعر الطافح عن الحياة والألم ،الذي كان صَليب هذا الشاعر. وهو نفسه الصليب الذي عبر عَنه بشفافية لامعة، تُسعف على الاقتراب من مكنون ما يعتمل في خاطرية المنطق الإبداعي لديه.
بافتتان بالغ، تابعت ما رصده الشاعر عبد الدين حمروش، في كتابه "المكان الفني في شعرأحمد بركات " وهو الإصدار الذي عمل على مصاحبة نصوصه، برؤية معرفية رصينة، وأدوات اشتغال أضاءت حيزا مُهما في تجربة هذا الشاعر الرّكيز، في سياق المشهد الشعري المغربي والعربي، ومما ألمَحَه عن بركات قوله: «لقد عاش شاعرنا حياة قصيرة جدا، لكنها مكثفة في شعريتها ورمزيتها. فلكأن حياة الشاعر، بقدريتها تلك، كانت شرطا ضروريا لكتابه نص متميز في عمقة واختلافه، والملاحظ انه بالرغم من بساطة ذلك النص ظاهريا، لم يكن يخفي انه يجوز سرا يجعله ينفرد بشخصية، اسرة مثل باقي النصوص العظيمة وذلك لعمري هو مكمن اصالة شاعر يسمى احمد بركات» فهذا الأخير، الذي يُعدّ ضمن كوكبة الشعراء الأشقياء، المهووسين بقلق الشعر ودفئه، خلّفَ لنا أثرا بارزا بدوانيه (أبدا لن أساعد الزلزال ) الأول الذي كان البشارة البكر على بزوغ شاعر مختلف، والثاني (دفاتر الخسران ) الديوان الذي بات يرمز، إلى دفاتر جيل لم تُسعفه مرحلة الثمانينات ولا المراحل الزمنية التي تلتها، على البوح الشعري في جو ثقافي مغربي صحي وفاعل .
إني وأنا أقرأ كتاب عبد الدين حمروش، أتذكر عديد المقالات والدراسات التي كُتبت عن شعر أحمد بركات، الذي باستحضاره نستحضر أحد الشعراء المغاربة البارزين والأساسيين: فقصيدته وهبت لحياة الشعر المغربي، معاني جديدة، أغنت وجددت أشكال التعبير، لا الشعري فحسب بل الجمالي بصفة عامة.
ومن هنا، أتكلم عن أحمد بركات لا كشاعر أو نص يحمل معياره في صلبه، بل كصوت لأصالة نادرة في المشهد الثقافي المغربي، الذي صار شديد الشبه، بحفلة عزاء حُسَيْنِيّة بارعة في اجترار بكائياتها طوال العام.. لا أستظل منها إلا بفيء شعراء نادرين ومضيئين، وأحمد بركات أحدهم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق